ادخلني ابي البيت

أدخلني أبي البيت ماسكا بياقة قميصي يكتم غيظا تفضحه ملامح وجهه، لا يهم فهذا ما أردته بالضبط أن أستفزه وأن أفقده صوابه، لكنه بدل أن ينهال علي ضړبا، فاجأني بصوت بارد ونظرة مباشرة:
لقد استنفذت كل الحلول معك، لكن بقي شيء أخير ستلتزم به وسأسعى جاهدا أن تفعل، ستقضي ما تبقى من العطلة الصيفية هنا في البيت، ولن تبرحه.
ضحكت في سري وبنظرة متحدية رمقته داخلا غرفتي.. التمرد يسكنني والڠضب يسيطر علي، بت ليلتي أخطط لاڼتقامي من سطوته واستبداده.. في اليوم التالي دخلت مكتبه وهو مكانه المقدس.. تظاهرت بالبحث عن كتاب للقراءة عندما مر قرب الباب، وما إن ابتعد حتى قصدت هدفي الذي كان الإرث العائلي الذي خلفه جده: روايات تشهد بموهبته.. حملتها ووضعتها أمامي، لفتتني صورة شاب ذو لحية خفيفة يبتسم ابتسامة هادئة، بقيت لدقيقة أحملق بالصورة التي لم أنتبه لها من قبل، لقد كنت نسخة تامة عنه!! ألا يكفي أن أحمل اسمه الذي أثقل حاضري وأحلامي، فإذا بي أحمل إضافة لجيناته ملامحه كاملة! 

فتحت روايته بعد أن أخرجت قلما لأشوه ما كتب، شدني السطر الأول فأجلت نيتي المبيتة للسطر الثاني، لكن سطرا بعد الآخر وجدتني أغرق في الرواية، ثم رواية تليها رواية.. مضت الأيام دون أن ألحظ فأصبح مكتب أبي محرابي الذي لا أفارقه إلا لتناول الطعام أو قضاء الحاجة، حتى النوم له طعم خاص بين هذه الأوراق والأفكار المتناثرة عليها، استسلم أبي وتركني لمنفاي الاختياري مادام يبعدني عن رفقة السوء وافتعال المشاكل.. تبينت بعد فترة من التأمل أن جدي ضمن رواياته شيفرة متسلسلة بتسلسل إصداراته.. عكفت على تدوين ملاحظاتي بتركيز، غير أن صوتا قرب الباب الموصد علي شتت انتباهي، قمت لأجد أمي تحتج على أبي مصرة أن ابنها لم يعد له وجود وقد تحول لشبح بمباركة من أبيه، لم أهتم بما يفكران فيه فأنا مندمج كليا في عالمي الجديد، بصوت هادئ طلبت منهما أن يتناقشا بعيدا لأنهما يزعجانني، وبينما تيقنت أمي من صدق خۏفها، تأكد أبي أني أمضي في طريقي الخاص إلى الشفاء، في حين عدت أنا لفك شيفرات جدي التي وجدتها للأسف ناقصة!!
تطلب مني الأمر بحثا كبيرا بين الكتب عن اخر مؤلفاته، لكن لا جدوى.. اضطررت لأن أسأل أبي عنها، إلا أنه أخبرني أن حصيلة جدي الأدبية تتلخص في تسع روايات ومجموعة قصص قصيرة متناثرة هنا وهناك، وذاك لأنه لم يكن يكتب إلا في حالات خاصة وعلى فترات متباعدة.. كمن يقف أمام جدار وقفت عاجزا، انتبهت إلى أني قد أنهيت ثلاثين يوما عالقا في عالمه،وأني أحتاج عشرة أيام أخرى لأعتبر نفسي على طريق الشفاء من إدمان يجهله أهلي، فكما تقول أمي دائما أن مسألة الأربعين يوما تجعل العادات تترسخ، أحتاج عشرة أيام ليصبح دمي نظيفا،كما أني أحتاج فك لغزه الذي بدأ يتكشف لي شيئا فشيئا.. تلك الليلة لمعت بذهني فكرة تستحق المحاولة: انكببت على الأمر بكل طاقتي.. صباحا، فتحت بريدي الاليكتروني بحماس لأجد رسالة واردة إلي من.. من.. شخص يحمل اسمي!! فتحته فإذا بها رواية إليكترونية.. وفي تمام اليوم الخامس والأربعين كنت قد أنهيت فك الشيفرة المكونة من عشر كلمات والتي كانت تقول: "القلم دواء متوارث بيننا، وصلت الرسالة والمشعل الآن بين يديك" 
لقد تحقق التواصل بيننا إذا!! فقد أرسلت إليه أحثه على إنهاء مابدأه، بعد أن شرحت له ظروفي وأكدت عليه:"إن لم يكن ينقصك الخيال أو تخونك اللغة فأنا متأكد من أنها مرحلة وستمضي، من خلال قراءاتي لأدبك فهمت أن الألم محرك لابداعك، تذكر ما يلهمك.. اجلس كل يوم وحاول.. لأجلك ولأجلي.. مستقبلي يعتمد عليك فرجاء أكتب لنشفى معا."